من يدير الدعم السريع؟ توظيف المليشيا وتفتيت الجيش السوداني

بعد مرور أكثر من عام على اندلاع الحرب السودانية المُرَوِّعة، وما خلفته من تداعيات جسيمة وتأثيرات عميقة، وسط تحولات الواقع السوداني المضطرب والمشهد الإقليمي والدولي المتغير، يبرز سؤال بالغ الأهمية: من الذي يقف فعليًا خلف إدارة قوات الدعم السريع، بغض النظر عن الأوصاف والمسميات المستخدمة؟
وما هي المرجعية المؤسسية الحقيقية التي تستند إليها هذه القوات، سواء كانت هيئة القيادة العسكرية أم التراتبية الإدارية؟ وما هي المرجعية السياسية التي تُملي الخيارات وتُطوّر المواقف وتُبلور الرؤى؟
لا شيء واضح وجلي للعيان، وهذا هو الأمر الأكثر خطورة، فالوضع الحالي أشبه ببندقية مُختَطَفة، يستخدمها كل طرف لتحقيق أهدافه ومصالحه الخاصة، تحت قاعدة "تفلت" التي تعني فقدان السيطرة.
توظيف سياسي وعسكري
من الواضح بجلاء أن قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ليس في كامل قواه الذهنية والبدنية، سواء بسبب طول أمد المعركة وتعقيداتها، أو نتيجة للإصابات التي لحقت بقواته. كما أن نائبه وشقيقه، عبدالرحيم دقلو، شخصية منبوذة دوليًا ومطاردة داخليًا وغير مستقرة، ولا تمتلك القدرات التي تؤهله للتعامل مع استراتيجيات واسعة النطاق وتحولات متعددة الأوجه. إضافة إلى ذلك، يفتقر الدعم السريع إلى انعقاد دائم للاستشارات السياسية، على الرغم من كثرة المستشارين وقلة خبراتهم، وهو الأمر الذي يتضح من خلال حواراتهم وأطروحاتهم المتناقضة.
إذًا، من هو القائد الفعلي (أو الجهة) الذي يوظف هذه القوة العسكرية لتحقيق مطامعه ومآربه الخفية؟
هناك دعم متواصل بالمال والرجال والعتاد، وهناك تنويع ملحوظ في مصادر الأسلحة، وحركة إمداد مستمرة، ومسارات تخزين تتطلب مبالغ طائلة وترتيبات لوجستية معقدة. كما أن هناك توظيفًا سياسيًا مكثفًا، واستخدامًا واسعًا للمنابر والمنصات الإعلامية، وإصدارًا للبيانات بشكل منتظم، كل هذا يشير بوضوح إلى وجود جهات أخرى ذات مصلحة تسعى لتحقيق أهدافها من خلال هذه الحرب.
كما أن التنسيق الدولي والإقليمي والحركة الدبلوماسية النشطة التي تقوم بها قوات الدعم السريع، تتجاوز بكثير قدرات مليشيا متمردة ذات سجل أسود حافل بالانتهاكات وجرائم الحرب الموثقة. ومع ذلك، تتسلل خطاباتها إلى منصات ومنابر أممية ودولية، وهو ما يكشف النقاب عن وجود عمل منظم ومدروس يقف وراء ذلك.
فمن يقف وراء كل هذا الدعم والتنسيق؟ هل هناك تحالف دولي خفي يخطط لهذه الحرب ويديرها من وراء الستار؟ وما هي مصلحته في استمرار الجرائم والانتهاكات والإبادة والتطهير العرقي؟ وما هي أهدافه من الانغماس في هذا الجنون؟
هل تحولت هذه الحرب إلى مجرد وسيلة لخدمة مصالح عائلة دقلو، أم أنها ظاهرة فزع عابرة، أم مشروع استيطان فعلي يهدف إلى توطين ما يسمى بـ "عرب الشتات"؟
كما أن توظيف كل هذه الأحداث والتغطية عليها وربطها بالتحول السياسي والمدني والاتفاق السياسي، يثير الكثير من التساؤلات المشروعة. فليس من المعقول أن تتوافق قوى سياسية سودانية واعية مع مليشيا ارتكبت أسوأ الجرائم في تاريخ السودان الحديث.
يبدو أن هناك خفايا وأسرارًا دفينة، وليس بالضرورة أن يكون هناك هدف واحد. ففي زمن الفوضى والاضطرابات، يسهل الاستثمار في الخراب والدمار، ويا له من خيار قبيح ومُشين!
تفتيت المؤسسة العسكرية
يمكن القول بكل ثقة: إن الحرب التي تم التخطيط لها في صبيحة يوم 15 أبريل/نيسان 2023م، على أساس أن تكون خاطفة وسريعة، وتنتهي بإخضاع قيادة الجيش السوداني، لم تعد تحقق ذلك الهدف. لقد خرجت الأمور عن السيطرة، ولكنها لم تبتعد عن إمكانية التوظيف لتحقيق مآرب وأهداف متنوعة.
لقد كان الهدف المعلن هو القبض على قيادة الجيش وفق "المخطط المتفق عليه" بين فولكر وحميدتي وقحت، وإجبارهم على السير قسرًا في طريق "الاتفاق الإطاري"، وقبل ذلك، تفتيت المؤسسة العسكرية السودانية بشكل كامل.
كل ذلك يعيدنا إلى نقطة البداية، ويجعلنا نعيد النظر مرة أخرى في البحث عن الجهة التي لها مصلحة حقيقية في إحداث هذا الدمار الشامل، دون أن يطرف لها جفن.
والحقيقة المؤلمة هي أن قوات الدعم السريع أصبحت الآن مُختَطَفة، ويتم توظيفها وفق مصالح وأجندات متعددة ومتضاربة، ولذلك يُراد لها البقاء والاستمرار:
- هناك قوى إقليمية ودولية استثمرت بكثافة في قوات الدعم السريع، باعتبارها قوة يمكن الاعتماد عليها كقاعدة بديلة للجيش السوداني. هذه النظرية تم تداولها على نطاق واسع منذ الأيام الأولى للتغيير في أبريل/نيسان 2019م. حتى أن إحدى الدول الإقليمية اقترحت تسريح جميع جنود الجيش السوداني، واستبدالهم بجنود الدعم السريع، وبالتالي تفريغ وإنهاء المؤسسة العسكرية بشكل كامل، بحيث تتحول القيادة العليا إلى مجرد ضباط يتحركون في فضاء شبحي دون سلطة حقيقية.
- وهناك مصالح دولية متواترة تسعى جاهدة لتنفيذ "الاتفاق الإطاري"، وخاصة بعد الاجتماع الذي جمع بين فولكر برتيس، المبعوث الأمين العام للأمم المتحدة السابق، مع حميدتي في الجنينة. وعاد الأخير إلى الخرطوم مسرعًا لإعلان تأييده المطلق للاتفاق.
- وهناك قوى سياسية سودانية ترى في الجيش السوداني عقبة كأداء أمام تحقيق انتقالاتها السياسية، وتطبيق منظومتها الفكرية. وقد اتفقت هذه القوى مع حميدتي، وما زالت تقدم له الدعم والمساندة بعد اتفاق أديس أبابا، وتعتبره خارطة طريقها ومُنبرها الإعلامي.
- بيدَ أن هناك جانبًا آخر لهذه الحرب الطاحنة، وهو الثارات القبلية المتأججة في إقليم دارفور، والأطماع الاجتماعية المتزايدة في مناطق أخرى من السودان. وما يدور الآن من حشود وتعبئة للهجوم على الفاشر، وقبلها بابنوسة والجنينة ونيالا، تحركه دوافع قبلية بحتة. والآن يتصدر التعبئة العُمد، وقادة الإدارات الأهلية. وفي بقية ولايات السودان، لا يخلو الأمر من وجود صراعات مماثلة، كما يحدث الآن في سنار والدمازين.
لقد تحولت بندقية المليشيا إلى "أداة" يستخدمها كل طرف لتحقيق أغراضه الخاصة، ويتبرأ كل طرف من أفعالها الشنيعة. بينما الطرف الذي يدفع الثمن الأكبر لهذه المغامرات والمناورات هو الشعب السوداني المغلوب على أمره، وهو وحده من يحق له أن يحدد خاتمة هذه المأساة.